أكثرنا يعتقد ان صلاح الأمور فى مصر تكمن فى رحيل الرئيس أو ابتعاد نجله عن التدخل فى شئون الدوله ولكن بعد قائتى لهذا المقال فى جريدة الفجر اتفق مع كاتبه ان علاج مصر مش سهل لأن الداء أستشرى بطريقه سرطانيه
المواطن الذي عاد.. ثم ندم!
نـبـيـل عـمـر
الأسماء لا تهم..ولكن الحكاية واقعية مائة في المائة وليس فيها أي قدر من الخيال، وعدم ذكر اسم صاحب الحكاية هو نوع من الحماية له لا أكثر ولا أقل!
وهي حكاية مواطن هرب من مصر مهاجرا إلي أمريكا في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وفي جيوبه جواز سفر وتذكرة طائرة إلي نيويورك، و أقل من 3000 دولار.. بالتحديد 2900 دولار، ولا يعرف من الإنجليزية سوي بضع كلمات قليلة، وعاد بعد أحداث 11 سبتمبر وانهيار البرجين بشهور، ومعه مليون ومائة ألف دولار..
وها هو الآن يعض أصابع الندم علي العودة.. ويدرس حاليا الفرار بجلده لو تمكن من جمع 700 ألف دولار فقط من ثروته.
ما بين الفرار والعودة والندم حكايات مثيرة كاشفة تجيب عن سؤال في غاية الأهمية: لماذا نحن متخلفون؟!..وهل لدينا فرصة لنهرب نحن أيضا من تخلفنا ونصلح ما أفسدناه من حياتنا، وكيف نفعل ذلك؟!
الإجابات عن هذه الأسئلة هي جسر العبور أو الفرار إلي أنفسنا، خاصة ونحن في مرحلة حرجة لا نمل الحديث فيها عن الإصلاح والتنمية والتعديلات الدستورية، لأن الإجابات قد تدلنا إلي السؤال الأكثر أهمية: من أين نبدأ؟!
والحكاية ترجع إلي عام 1988، والدكتور "سين" ضابط في الشرطة برتبة مقدم، كان قد تخرج في كلية الطب البيطري قبلها بثماني سنوات، والتحق بأكاديمية الشرطة ستة أشهر، وصار ضابطا..
خدم تسع سنوات كاملة..وفجأة هبط عليه قرار نقل إلي محافظة أسيوط كطائر أسود، أقلق حياته الهادئة في مدينة بنها وفتح أمامه أبواب جهنم، لم يكن متزوجا، ولكنه لا يرغب في السفر إلي الجنوب بنفس الدرجة التي لا يرغب فيها الهجرة إلي بلاد النفط!
حاول أن يعدل القرار.. أن يجد حلا، فشل..كان محبطا ولم يكن عمله في الشرطة يرضيه إلا في مظاهر الأبهة والنفوذ وممارسة السلطة علي عباد الله الغلابة، لكن الرواتب شحيحة والغلاء يأكل كل شيء..
وفجأة لاحت علي باله فكرة مثل طوق نجاة: لماذا لا يقدم استقالته من الشرطة ويفتح
"أجزاخانة"؟!
قال لي: كنت يائسا ولا حل لي..
وأجهضت الفكرة في مهدها..الاستقالة مرفوضة حسب اللوائح!
قال لي: وجدت نفسي مثل طائر محبوس في قفص أصغر من حجمه!
هنا انقلبت الفكرة العادية إلي فكرة خبيثة، فالقوانين الغبية تجبر الإنسان أحيانا علي ارتكاب أفعال حمقاء أو مجنونة أو خارجة علي القانون: الهروب من بر مصر كله!
وكان السؤال: إلي أين؟!
الإجابة سهلة: إلي أرض الفرص والأحلام..أمريكا!
وعلي الفور راح إلي السفارة الأمريكية وحصل علي تأشيرة سياحية وكانت سهلة، فهو ضابط شرطة في الخدمة مأمون الجانب..
وقدم طلبا إلي إدارته (عمرة إلي الأرضي المقدسة)، وحث ضباطه الكبار علي الموافقة..
وجاءته الموافقة من الوزير..فكان في اليوم التالي علي متن رحلة طائرة إلي مدينة الصخب والمال والجنس "نيويورك" المعروفة باسم المدينة التفاحة!
نيويورك..نيويورك دون أن يسمع أبدا أغنية فرانك سيناترا الجميلة عنها..
هبط مطار (ك.أف.جه) وحيدا حائرا، المطار المتوحش في اتساعه أشعل نبضات قلبه، فسمع دقاته المتسارعة تهز جسده من رأس شعره إلي أخمص قدميه..
تلفت حوله يستنجد بأي عابر سبيل، لكن نيويورك مدينة من الصلب، ومطارها بلا قلب، فلم يجد وجها حانيا يلوذ به ويسأله..
ساعة..ساعتان..حتي لاح وجهاً عربياً، هرع إليه..كان يمنيا مهاجرا ينتظر ابن عمه القادم من صنعاء..
اقترب منه..سأله: عربي؟!
هز رأسه: يمني..
كلمة من هنا علي كلمة من هناك..
قال له: أريد أرخص لوكاندة في المدينة!
أجابه اليمني: أوستوريا في "كوينز"..
لكن سائق التاكسي أخذه إلي "وايت إن"..بـ25 دولارا في الليلة..
نام ليلته من فرط التعب والإجهاد دون أن يشغل باله بسؤال صعب: ماذا سأفعل في الغد!
أحيانا تلعب المصادفة دورا لا يتخيله البشر، تصبح مثل علامات أو نبوءات من السماء.. أحيانا يفهمها البشر يستدلون بها علي الطريق أو لا يستوعبونها ولا يتوقفون حيالها ويفقدون الطريق..
ولاحت له أول علامة أو نبوءة.. علي هيئة ثلاثة من المصريين تعرف عليهم في الشارع وهو يلف باحثا عن المجهول في أرض غريبة لا يعلم طبيعتها ولكنه يحس في أعماق قلبه أنها تناديه..كان أحدهم مصريا..ومن بنها أيضا..
سكن معهم شهرا في شقة صغيرة للغاية دون أن يدفع بنسا واحدا، بل وكلموا له صاحب الصيدلية التي يعملون بها، وهو أمريكي من أصل باكستاني يملك سلسلة من الأجزاخانات، كلها باسم واحد "سام"، فاشتغل "مرمطونا" في أكبرها مقابل 175 دولارا في الأسبوع، فهو بلا أوراق قانونية.. وكان الراتب يكفيه "عيش حاف" بالكاد..
لكن "سين" لم يكن يملك ترف الاعتراض أو الرفض، وصمم أن يغير "معادلة حياته" بأن يموت نفسه في الشغل، ساعات طويلة بصبر ودأب وإخلاص واتقان!
وأحس أنه صار مهما في مكانه، وأن الباكستاني الكبير لن يستطيع أن يستغني عنه بسهولة..
فذهب إليه قائلا: أريد زيادة!
فصعقه رد الباكستاني: مستحيل..أنت لا تصلح لأي شيء..
هل هناك من يعترف بقيمة الآخر بسهولة، خاصة إذا كان الاعتراف مدفوع الثمن؟!
وختم الباكستاني الحوار: ممكن تمشي!
ثلاثة أيام مكثها "سين" في البيت يفكر من جديد: ماذا سأفعل؟!
في صباح اليوم الرابع.. رن جرس الباب، فتحه ليجد الباكستاني أمامه يسأله: لماذا لم تأت إلي العمل؟!
رد سين بأريحية مصرية عمرها سبعة آلاف سنة: أنا لا أصلح لأي شيء..فقررت أن أوفر عليك راتبي!
فارتفع الراتب إلي 225 دولارا في الأسبوع!
تمضي الأيام و"سين" لا يكل من العمل الشاق، حتي وصل الراتب إلي 500 دولار في الأسبوع وسيارة بسائق وصلاحيات إشرافية علي سلسلة أجزاخانات سام!
لكن سام الباكستاني لأنه قادم من الشرق، حيث مفهوم الدولة وحقوق المجتمع والالتزام بالقانون ليست عادة متأصلة في النفوس، اعتاد اللعب في الإقرارات الجمركية لصيدلياته، عام وراء عام، وهو يتصور أنه يضحك علي العم سام "الأمريكي"، غافلا عن حقيقة قاتلة أن جريمة التهرب من الضريبة هي الأخطر في أمريكا، وقد تكون جريمة الخيانة أو التجسس أقل خطورة منها، ومن يتهرب يقف عاريا منفردا في مواجهة القوي العظمي تفعل به ما تشاء، ويبدو أنه لم يكن يعرف حكاية المجرم العتيد "آل كابوني" في الثلاثينيات، فالقانون الأمريكي لم يستطع أن يمس شعرة من رأسه وهو يقتل ويدير شبكة دعارة ويسرق، لكنه أمسك بزمارة رقبته حين عثر علي أدلة تهربه من الضرائب!
وانتهت أيام "سين" السعيدة بسقوط الباكستاني في الرمال المتحركة للتهرب الضريبي، فمكث في بيته ستة أشهر دون عمل، ينفق فيها من مدخراته التي جمعها أيام العز!
وجاءت العلامة الثانية أو النبوءة الثانية.. وهي الـ"جرين كارت" في الاختيار العشوائي الذي تديره إدارة الهجرة والجنسية للحالمين بالهجرة والعيش في أمريكا، وهي قصة طريفة لن أحكي تفاصيلها لأسباب خاصة جدا به يجب أن احترمها ولن تؤثر في سياق الحكاية العامة..
وفي غمضة عين تحول من كائن ضائع إلي إنسان قانوني..
وذات يوم وهو يسرح في شوارع كوينز ينقب عن فرصة وحلم وقعت عيناه علي يافطة معلقة علي "مغسلة بالبخار الجاف"..مكتوب فيها "للبيع أو الإيجار"!
هنا انقلبت حياته رأسا علي عقب، انفتحت أمامه أبواب أمل غامض حوله إلي واقع جميل، بالمثابرة والاجتهاد والتعلم والدأب والعمل..
لكن دون أن ننسي شيئا مهما..أنه كان من المستحيل عليه أن يصنع ما صنع دون قوانين وعلاقات ومجتمع قائم علي منح الفرصة وفتح الأبواب علي مصراعيها لمن يعملون ويجتهدون..هكذا تبني أمريكا نفسها طول الوقت..
لم يكن يعلم أي شيء عن المغاسل الجافة، فدخل مدرسة يتعلم فيها حكايتها، القانون الذي ينظمها، الواجبات التي عليه أن يؤديها للزبائن، أشياء كثيرة من أول حق الزبون إلي دور الحي والمدينة..
باختصار تعلم قانونية كل تصرف أو سلوك أو معاملة من أي نوع مع الأجهزة أو مع الناس.. وبعدها نال رخصة مزاولة المهنة من مدرسة المغاسل الجافة..ودونها لا يستطيع أن يمارسها..
وفتح المغسلة بقرض من البنك بالتليفون في عشر دقائق لا أكثر..لأن الثقة هي أصل العلاقة وليس الأكاذيب والضحك علي الذقون، فمن يكذب في بياناته أو كلامه تنتهي حياته العملية إلي الأبد، ولن يجد من يتعامل معه في بنك أو محل أو شركة عقارية أو مطعم أو سوبر ماركت.. أو.. أو..
الكذب في الأوراق الرسمية هناك معناه موت رسمي..وكله مسجل علي الكمبيوتر..
ونجح "سين" نجاحا مبهرا، وصار المحل 13 محلا وعقارات وسيارات وأملاكاً وعيشة في منتهي الرفاهية..
وفجأة كسب لقب "رجل الشهر" في الحي، ثم رجل العام، وكتبوا عنه في مجلة الحي عن عمله وأمانته وكفاحه..،فانضم إلي الحزب الجمهوري وساهم بشكل كبير في الحملة الانتخابية الرئاسية الأولي لـ"جورج بوش"..لأن نائب الرئيس المرشح في الحزب الديمقراطي كان يهوديا!!
عاش سين الحياة الأمريكية حتي الثمالة، وأحب أمريكا حبا جما، لم لا وهي التي أعطته كل ما كان يحلم به..
قال لي: في بلادنا الناس منقسمة بين سادة وعبيد، القانون لا ينفذ إلا علي العبيد والمغضوب عليهم من السادة، لكن في أمريكا "كلنا" مواطنون متساوون أمام القانون..
وقال: كنت مرة في أكبر محلاتي، ودخل إليه شخص قائلا..عمدة نيويورك جولياني في المحل اللي جنبك, وسوف يمر عليك من أجل انتخابات المدينة، فقلت له.. أخبره أنني لا أرحب به ولا أريده هنا..لأنه رفض أن يستقبل ياسر عرفات في دار الأوبرا بالمدينة..وفعلا مر جولياني أمام المحل، وأشار إلي بيده محييا دون أن يتوقف..
علق سين علي هذه الواقعة قائلا: لو حدثت مع واحد من السادة هنا، لسحبت رخصة المحل، وجاءتني الأجهزة الرسمية تفتش كل ساعة عن صحة العمال وتأميناتهم وتكتب ضدي مخالفات دون وجه، ولحولت حياتي إلي جحيم..لكن في أمريكا الناس سواسية!
المهم أن سين مضت حياته علي الرحب والسعة إلي أن وقعت أحداث 11 سبتمبر، الهجمات الانتحارية علي مركز التجارة العالمي في نيويورك ومبني وزارة الدفاع في واشنطن!
هنا تغيرت فصول السنة في حياته، صارت كلها فصلا واحدا، شتاء دون ربيع أو صيفاً أو خريفاً، رعداً وبرقاً وأمطاراً وعواصف دون شمس تشرق..فكل من يحمل ملامح عربية أو اسما عربيا صار مدانا إلا أن تثبت براءته، والمصيبة كل المصيبة لو كان في الاسم كلمة محمد أو أحمد أو محمود أو...
دهمت فرق المباحث الفيدرالية محلاته مرتين في أقل من ثلاثة أشهر، تقيد يده هو وعماله الذين ليس بينهم عربي واحد، حتي تنتهي من التفتيش في الأوراق وفي الكمبيوتر وفي المخازن تبحث عن أشياء غامضة لا تعرف كنهها!
وقرر"سين" العودة إلي مصر، خاصة بعد أن أبلغه مدير البنك: أنهم يبحثون وراءك!
وباع كل شيء بنصف الثمن وربما أقل قليلا وعاد إلي بنها..
سألته: كيف عدت وكنت ضابطا في الشرطة؟!
قال: حسب اللوائح..فصلوني بعد 15 يوما غياب!
عاد " سين" فتزوج، وفكر في مشروعه القديم "أجزاخانة" وكان أمرها سهلا إلي حد ما، وأضاف إليها مستشفي شاف من وراءها الويل..
في الأول اشتري دورين من عمارة، وراح الوزارة يسأل عن شروط التراخيص، قالوا له عليها، فاشتغل وبعد أن انتهي قالوا له: آسفين..الشروط تغيرت!
قال "سين": في مصر كل واحد يتفنن في تعطيل الشغل، في إيقاف المراكب السائرة، مجلس مدينة، كهرباء، في ديوان الوزارة..في كل مكان..وكل موظف "مادد" أيده قبل أن ينظر في أوراقك "انا اللي ح أخلص لك الورق"، وبعدها يلهف الرشوة ولا يعمل شيئا..باختصار دمي اتحرق ألف مرة!
هذا بلد لا يشجع علي النجاح، بل هو يحارب النجاح، طارد لأهله.. نفسي أرجع أمريكا فورا..
هذا أغرب بلد في الدنيا، لم أجد ناسا لا تحب وطنها مثل المسئولين في مصر، فهم الذين تركوها تصل إلي هذه الحالة المتردية، ويعملون الآن علي دوام هذه الحالة..
تعديل دستوري إيه وانتخابات إيه.. المسألة أعقد من كده بكثير!
وانتهت حكاية المواطن الذي عاد ثم ندم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق